بين الضريح والدعاء... دمعة حياة

أم محمد لم تكن مجرد مريضة تُسجّل في دفتر المتابعة، بل صفحة من الألم والرجاء كنتُ أقرأها كل مرةٍ بعينٍ منطبقة على الأمل.

امرأة تقف على تخوم المرض، تشارف الدخول في نفق الغسيل الكلوي، تخشاه كما يُخشى الرحيل، لكنها لم تكن مهزومة…

كانت تقاتل بصمت، تراقب أرقام تحاليلها بدقة، تلتزم بالأدوية، تتبع النصائح، وتُمسك بخيوط الرجاء كمن يُمسك بحبل نجاةٍ وسط بحرٍ هائج.

وحين كنا نظن أن صحتها باتت مستقرة... جاءنا الخبر الذي قلب كل شيء.

في إحدى الليالي، وبينما كنتُ في كربلاء، غارقًا في سكون المكان وقدسيته، وصلتني رسالة عبر ”الواتساب“ من أحد الأصدقاء، كلماتها كانت مرتجفة، تشي بفاجعة قريبة:

زوجة أخي في حالة حرجة... في العناية المركزة... نريدك أن تكون معنا، أن تفهم من الأطباء حقيقة ما يجري.

تأملت الرسالة، شعرتُ بالثقل في قلبي، ثم أجبته بنبرةٍ آسفة:

- أنا الآن في كربلاء... عند الإمام الحسين .

فجاء رده سريعًا، مشبعًا بالاعتذار:

- عذرًا دكتور... لم أقصد أن أزعجك.

أجبته:

- بل على العكس... انتظر فقط، سأتوجّه الآن إلى الضريح الشريف، وسأدعو لها من القلب.

قال:

- سنكون لك من الشاكرين...

وبالفعل، مضيت بخطى يملؤها الرجاء، دخلت حرم الحسين ، ووقفت عند الضريح الطاهر.

وضعت جبيني على الشبّاك، وبدأت أُهمس دعاءً يقطر من القلب كما تهمس الأرواح لحبيبٍ قديم:

يا أبا عبد الله... هذه مريضة بين الحياة والموت، فلا تردّ دعاء عبدك عند بابك... اشفع لها... اشفع لها...

سجّلت مقطعًا صغيرًا، كانت فيه صورة الضريح، وصوتي المتهدّج بدعاء يحمل اسم ”أم محمد“...

ثم أرسلته، وعدت إلى سكوني.

- - -

مرت الأيام... وتلقّيت اتصالًا منه.

سألته بلهفة:

- كيف حال زوجة أخيك؟

قال وفي صوته نغمة أمل:

- بدأت تتحسّن... وعندما تعود، سأروي لك ما لا يُصدّق.

وبعد أن عدت من السفر، التقيت به. كان اللقاء مختلفًا، فيه نبرة دفء، وعيناه تُخفيان شيئًا كبيرًا.

سألته:

- كيف حالها الآن؟

فاضت عيناه بالدموع، وكأن الذكرى استدعت دمع القلب قبل العين، فقلت بقلق:

- هل...؟

قال وهو يبتسم بدمعة:

- لا، لم تمت... لكنها لا تزال في المستشفى... لكن ما حدث في ذلك اليوم... لن أنساه ما حييت.

قلت له وأنا أقترب إليه:

- أخبرني...

قال:

- وصلنا إلى سريرها، وكنّا نحمل مقطع الفيديو الذي أرسلته لنا... شغّلنا المقطع، قرّبنا الهاتف من وجهها، وبدأنا نهمس:

”يا أم محمد... هذا الدكتور، يدعو لك من عند الإمام الحسين... اسمعي صوته... انظري إلى الضريح...“

ثم سكت قليلًا، وصوته يرتعش:

- وفجأة، بدأت تتحرك، فتحت عينيها ببطء، نظرت نحونا، ودموعها تنهمر على خديها... لم تنطق، لكنها قالت الكثير بتلك النظرة.

قلت له وأنا أشعر برعشة في داخلي:

- سبحان من بيده القلوب والأرواح... الحمد لله.

- - -

وفي اليوم التالي، زرت ”أم محمد“ في قسم التنويم.

طلبت من الممرضة أن تُمهّد للدخول:

- أخبريها أن الدكتور يود زيارتك.

دخلت، واقتربت من سريرها، ألقيت بلطف:

- يا أم محمد... كيف حالكِ؟ هل تذكرينني؟

نظرت إليّ، عيناها تبرقان بدمعتين حارّتين... أرادت أن تتكلم، لكن صوتها خانه.

لكنني كنت أقرأ كلماتها من نظرتها، من اهتزاز جفنها، من رعشة قلبها...

كانت تهمس بصمتٍ عميق: ”ما خاب من تمسّك بك يا حسين...“

أخصائي التغذية العلاجية